المادة    
ثم يأتي ابن كثير رحمه الله بالآيات فيقول: ''قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه''.
وهذه هي التي سيوردها رحمه الله تعالى فيما بعد، ويقول: سبب آخر في نزول هذه الآية، فهذا السبب قد ورد، ومع ذلك قال الحافظ رحمه الله: ''والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله''.
وهذه العبارة مهمة جداً، ويجب أن نتأمل معناها؛ لأنها هي مناط الحكم في هذه المسألة، فالحكم مبني على هذا المصطلح نفسه، وعلى هذه العبارة، وهذا الفهم.
قال: ''وكانوا قد بدِّلوا كتاب الله الذي بأيديهم''.
فمناط الحكم هو التبديل: تبديل دين الله، وتبديل كتابه، وتبديل شرعه.
قال: ''الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه''.
فهذا أمر هام متعلق بمناط الحكم، وهو التبديل.
ثم قال: ''واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين''.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أنزل في التوراة الرجم، وقد قال تعالى: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ))[المائدة:43] فلما كثر الزنا فيهم وشاع وانتشر بينهم، اصطلحوا فيما بينهم أنهم لا يقيمونه إلا على الضعيف، ويتركون إقامته على الشريف.
ولم يقف الانحدار عند هذا الحد، كما قال تعالى: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ))[المائدة:78-79] فلم يقم فيهم من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويردهم إلى الأصل، بل جاء فيهم من يقول: إن هذا لا يجوز، كيف نرجم الضعيف ونترك الشريف؟!
فاتفقوا على حل آخر، ورجعوا إليه باسم الإصلاح، فقالوا: ليس من العدل أن نقيمه على الضعفاء فقط، ولكن العدل أننا نترك حتى الضعفاء، ولا نقيم عليهم حد الرجم، حتى نعدل بينهم وبين الأشراف، فقال بعضهم: هل نحلل الزنا؟!
قالوا: لا، حتى لا نخالف كتاب الله!
وهذا هو فقه اليهود والمنافقين، والذين في قلوبهم مرض، وهو فقه أعوج، فقالوا: علينا أن نعدله بأن نتفق على شيء وسط، يناسب العصر والناس والمجتمع من جهة.
ومن جهة ثانية أن فيه موافقة لحكم الله، لأننا لو أمسكنا الدين بقوة لأصبحنا متطرفين وأصوليين، وإن تركناه بالكلية فإنه لا يصلح، فقالوا: نبتغي بين ذلك سبيلاً، ونقول: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فهذا مثل ما قاله المنافقون، وكل من انحرف عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالوا: إذاً الحل نحممهم -والتحميم: التسويد بالفحم- ونحملهم على حمارين، ونطوف بهما في الأسواق، ونقلبهم، فنجعل ظهر كل واحد إلى الثاني، فنشهر بهما.
قال: ''فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك''.
فهم يتحايلون على الله، مع أنهم لم يؤمنوا بهذا النبي، ولم يتبعوه في كل ما يقول.
قال: ''وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذاك''.
أي قولوا: لدينا أحكام نحتكم إليها، ولا نريدك ولا نريد حكمك، فهكذا كانوا يقولون!!
ثم قال: ''وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: {إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا -بعدما قالوا ذلك الكلام- فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم: ماذا ورد في التوراة عندكم في شأنهم؟
فقالوا: نفضحهم ويجلدون
}.
فأولاً: مخالفة حكم الله، ثم الكذب على الله، ودائماً كل من اتبع هواه وخالف أمر الله، واتبع شهوته، وآثر الدنيا على الآخرة، فلا بد أن يُؤدي به ذلك إلى أن يقول على الله بغير علم، حتى لو كان يعرف الآيات مثل ما يحفظ الناس سورة الفاتحة، فيحفظ الآيات ويعرف الحكم لكنه متبع لهواه، مؤثر لدنياه، فلا بد أن يقول على الله بغير علم.
وهذه من عقوبات الذنوب -نعوذ بالله- حيث أنه يبدأ بذنب، فيبدأ بأكل الربا وهو خائف من الذنب، وبعد فترة يقول: من قال لكم إنه حرام، والله قد أحله؟
فيكذب على الله ويفتري عليه، ويقول على الله بغير علم، وهكذا دائماً، نعوذ بالله.
فالآن انتقلت اليهود من حالة مخالفة حكم الله إلى حالة القول على الله بغير علم.
قالوا: الذي عندنا في التوراة أنهم يجلدون ويفضحون، فأكذبهم الله عز وجل: {قال عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه}.
وهذا هو الشاهد من بني إسرائيل، الذي شهد عليهم، والذي فضحهم وبين كذبهم، وهو عالم بني إسرائيل، وعلماؤهم الذين عرفوا الحق كثير لكنه رئيسهم ومقدمهم رضي الله تعالى عنه.
قال: {كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفعها فإذا آية الرجم}.
وهذا فيه دلالة على أن المطلع على أحوال أعداء الله أعرف ممن لم يطلع عليهم، فقالوا: {صدق يا محمد! فيها آية الرجم} أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ له: {قال لليهود: ما تصنعون بهما؟ قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: ((فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[آل عمران:93] فجاءوا، فقالوا لرجل ممن يرضون أعور: -وهو ابن صوريا- اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا}.
فالسبب والمناط الآخر لخروجهم من الدين، هو قوله: { ولكنا نتكاتمه بيننا }.
ولذلك قال الله: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ))[آل عمران:187] ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ))[البقرة:159] إلى آخر ما جاء من وعيد من كتم وسكت عن الحق.
قال: {فأمر بهما فرجما}.
وهذه رواية أخرى من روايات مسلم وهي صحيحة.
  1. سبب تغيير اليهود لحد الزنا

    قال: ''وفي إحدى الروايات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد}''.
    نعوذ بالله!! مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنشدهم بالله الذي أنزل التوراة على موسى!
    قال: {وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكت، ألظ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النشدة -شدد به لأنه سكت- فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما أول ما ارتخصتم أمر الله}.
    أي: كيف بدأ عندكم هذا، حيث تترخصون أمر الله وتتركوه وتعرضوا عنه، قال: {زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس -من العامة- فأراد رجمه -فأراد الملك من بني إسرائيل أن يرجمه- فحال قومه دونه وقالوا: لا نرجم صاحبنا، حتى تجيء بصاحبك فترجمه}.
    فصارت مشكلة، إما أن يرجم قريب الملك ويرجم معه العامي من الناس، وإما ألاَّ يرجم هذا ولا هذا.
    فقال: {فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم}.
    فقالوا: أحسن شيء ألا نرجم هذا ولا هذا، وهذه الرواية يهمنا منها موضوع التاريخ، كيف ارتخصوا، وكيف اصطلحوا.
    وفي رواية أخرى ذكرها من رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب وهي في الصحيحين، قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمة على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه -وهذا من مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ))[المائدة:41] إلى آخر الآيات}.
    إذاً هم بدلوا كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم، وتكاتموه فيما بينهم، واصطلحوا على هذه العقوبة، واجتمعوا على التحميم، وهذا هو مناط التكفير، وهو الاصطلاح والاجتماع والاتفاق على حكم غير حكم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما من فعله خطأً وجهلاً ولا يعترف به، ويقول: أنا لم أحكم إلا بما حكم الله! ولا يجوز أن نحكم إلا بما أنزل الله! وأنا أستغفر الله! فهذا لم يدخل في هذا، وهذا لم يصطلح ولم يتكاتم مع غيره.
    إذاً: نريد من هذه العبارات الدقيقة المهمة أن نفهم حتى نعرف مناط الحكم، ولماذا كان الحاكم بغير ما أنزل الله، المتبع لشرع غير شرع الله، والمتبع لقوانين وضعية عاملاً بها يكون كافراً خارجاً من الملة.
  2. القول الأول في سبب النزول

    ونرجع إلى استعراض كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله يقول : ''وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: { مُرَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ } ''.
    ونجد هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسب هذه الرواية: {مُرَّ عليه بيهودي محمماً} أقيم عليه هذا الحد من قبل أحبار اليهود وعلمائهم، وليس فيها أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والروايات دائماً تختلف، ولهذا ننبه أن عمل الفقيه غير عمل المُحدِّث، فالمحدث يجمع الروايات ثم يبين الصحيح من الضعيف، ثم يتفقه، وقد يكون فقيهاً ولكن عمل الفقيه وإن كان المُحدِّث هو نفسه أو غيره، بعد ذلك يُقارن ويُوازن بين الروايات، فقد يأخذ بألفاظ في رواية ويترك ألفاظاً، وربما يرد بعض الروايات وإن كانت ثابتة وصحيحة، فيرجح بعض هذه الروايات على بعض، وهذا علم عظيم دقيق جليل يتعلق بتعارض الأدلة، وليس كل أحد يتقن ذلك.
    فالذين يتخبطون في مسائل من الدين يريدون أن ينكروا سنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً على أنها تُخالف ظاهر القرآن الكريم.
    والمهم هنا أنه من خلال ما سبق من الروايات نعلم أن الأرجح والأظهر والمطابق لنص القرآن الكريم هو أنهم جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في الروايات الأخرى غير حديث البراء رضي الله عنه.
    ثم قال في الحديث: {فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فقال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر... إلى قوله: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ)) [المائدة:41] أي: يقولون ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله قوله: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44] قال في اليهود، إلى قوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[المائدة:45] قال في اليهود، (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة:47] قال: في الكفار كلها} انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
    فهو يقرر أن الآيات في الكفار كلها، فجعل الآية الأولى في اليهود، والثانية في اليهود، والثالثة أيضاً، فقال: في الكفار كلها وهذا تفسير البراء بن عازب رضي الله عنه.
    والكفر هنا المراد به الكفر الأكبر، فالحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر.
    وقد يقول قائل: هذا في اليهود، فإنهم إذا حكموا بغير ما أنزل الله من التوراة كفروا، وكذلك النصارى لأن في آخرها: ((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة:47] فمن لم يحكم بالتوراة أو بالإنجيل من أهل الكتاب يكون كافراً، وهذا الذي يدل عليه الحديث. وهذا الحكم لا يلزم منه أنه يتناول المسلم الحاكم بغير ما أنزل الله.
    ونجيب على هؤلاء بقول حذيفة: [[نعم أبناء عم لكم اليهود -كان الأمر كذلك- فما كان من حلوة فهي لكم وما كان من مرة فهي لهم]].
    فلا نجعل القرآن عضين، فنقول: إن من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في التوراة فهو كافر؛ لأنه من اليهود، وأما إن كان حكم بغير ما أنزل الله في القرآن فهو مسلم لأنه من المسلمين، فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان المغير الذي بدَّل التوراة أو اصطلح على غير ما فيها أو تكاتم على ما فيها وغيَّره يكون بهذا العمل كافراً بالتوراة، فمن فعل ذلك من أهل القرآن فإنه كافر بالقرآن بل هو أشد؛ لأن القرآن ناسخ ومهيمن على ما قبله، فمن كفر بالقرآن فهو أشد كفراً ممن كفر بالتوراة مع أنها موقوتة مخصوصة بزمن معين وبأقوام معينين.
    أما القرآن الكريم فهو كلام الله الذي أنزله للعالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصحابي فسَّر الآية وجعلها كلها نوعاً واحداً، ولم يقل: إن الكافرين نوع، والظالمين نوع، والفاسقين نوع، ومن فعل كذا فهو كافر، ومن فعل كذا فهو ظالم، ومن فعل كذا فهو فاسق، بل الوصف واحد.
    وهذا صحيح من جهة اللغة، فإنه إذا اتحد المسند إليه فإن المسند يجب أن يكون واحداً، فقوله: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ))[المائدة:45] واحد في كل الآيات الثلاث فقوله ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] ((فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))[المائدة:45] ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[المائدة:47].
    فالصحيح لغة أن هذه الأوصاف الثلاثة تكون أوصافاً متعددة لموصوف واحد؛ لأنه لم يتغير المسند إليه.
    فالمبتدأ واحد، والأخبار تعددت عنه، وهذا كقولك: فلان شاعر وفلان كاتب، وفلان خطيب، والمقصود هنا أنه ورد التصريح أنها في الكفار والنوع هنا واحد.
  3. سبب حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقة التوراة

    ثم يقول: ''وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله، قال: { زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بـالمدينة أن سلوا محمداً عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال: أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم، فجاءوا برجل أعور يقال له: ابن صوريا وآخر، فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتما أعلم من قِبَلكما، فقالا: قد لحانا قومنا كذلك -أي: قومنا يعدوننا أفضل من فيهم- فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟
    قالا: بلى، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المنَّ والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟
    }.
    وانظر ما أعظم هذه المناشدة، فلو أن هناك قلوباً وفيها حياة، لكنها قلوب ميتة مغلفة: { فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والقُبل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يُبدئ ويُعيد كما يُدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو ذاك، فأمر به فرجم، فنزلت: ((فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ))[المائدة:42] }.
    وهذا الحديث على أن في سنده كلاماً، لكن الحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر هذه الأحاديث ليصل إلى نتيجة معينة، وهي أن هذه أحاديث دالة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، على اختلاف في ثبوت بعضها وضعفٍ في بعض رواياتها.
    يقول: ''فهذه أحاديث دالة متفقة على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون بإتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك''.
    فقد أمر الله عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الأمر لِحكَم، ومنها: أن يفضحهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبين لهم ما صنعوه بكتابهم وما بدلوا وحرفوا فيه، فإنهم كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنهم: ((تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً))[الأنعام:91] فهم يكتمون الحق، فيظهرون بعضه، ويخفون بعضه، ويؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.
    يقول: ''وسؤاله إياهم عن ذلك ليقرّرهم على ما بأيديهم''.
    وفي هذا -أيضاً- دلالة على صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآية بينة عظيمة على أنه رسول من عند الله، وأن الذي أوحى إلى موسى هو الذي أوحى إليه صلوات الله وسلامه عليهم؛، لأنه طلب منهم ذلك، وأراهم حكم الله، وأنه -أيضاً- جاء به، فهذا دليل على أنه نبي صادق يُوحى إليه من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً.
    يقول: ''وليقررهم على ما بأيديهم، مما تواطئوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعدولهم إلى تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما كان عن هوىً منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به''.
    فهم لم يأتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل الإذعان والانقياد والإيمان والتصديق وإنما جاءوا إليه هوىً وشهوة.
    قال: ''ولهذا قالوا: ((إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ))[المائدة:41] أي: الجلد والتحميم: (( فَخُذُوهُ ))[المائدة:41] أي: اقبلوه: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا )) [المائدة:41] أي: من قبوله واتباعه''.
    فالآية تدل على أن هؤلاء القوم ما كانوا يريدون حكم الله على الحقيقة، وليس غرضهم هو اتباع دين الله والعمل بما أنزل الله، وإنما قالوا: إن حكم بما يوافق الهوى عملنا به، وقلنا: هذا نبي من أنبياء الله وجعلناه حجة بيننا وبينكم، وإن حكم بخلاف ذلك فنحن قد كذَّبناه فيما هو أعظم فاحذروا لا تأخذوه، بل اعملوا بما اتفقتم عليه، وما كنتم تعملونه من قبل.
    فمفهوم لسان حالهم أو مقالهم ربما يقول: ليس ترككم لكلام محمد بأشد وأعظم من ترككم لكلام التوراة التي تنتسبون إليها، فمن كفر بالكتاب الذي بين يديه فلا غرابة أن يكفر بما وراء ذلك.
    يقول: {{ قال الله تعالى: ((وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ))[المائدة:41] }}.
    فهذه قلوب مفتونة غير مطهرة، وأعظم فتنة تكون في الإيمان، فتصدر منه مثل هذه الحالات من التكذيب، والالتواء، والاحتيال، والافتراء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجرأة على كتابه، وأخذ ما يوافق هواه، وترك ما يخالف هواه وشهوته، فهذه ألوان من آثار الفتنة: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ))[المائدة:41] فلوا أراد الله ذلك لانقادوا وأذعنوا وآمنوا واتبعوا ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  4. من علامات الحكام بغير ما أنزل الله

    قال: ''((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ))[المائدة:42] أي: الباطل: ((أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)) [المائدة:42]''.
    وهذه العلامة إذا وجدت في أي أمة أو فرد فاعلم أنه لا يمكن أن يحكم بما أنزل الله، ولابد أن يُخالف حكم الله، فمن يسمع الكذب ويأكل السحت لا يمكن أن يكون عادلاً أو نزيهاً أبداً، ولهذا حرمت الرشوة.
    ويجب على القاضي ألاَّ يحكم إلا بعد سماع المدعي ثم السماع من المدعى عليه، ثم يقارن، ثم يُرجح، حتى يحكم مجرداً عن أي ميل نفسي لمجرد القرابة أو الهوى أو الشهوة أو ما أشبه ذلك.
    أما إذا كان سمَّاعاً للكذب ولكل ما يلقى إليه، ثم فوق ذلك يأكل الرشوة فلا يُنتظر منه عدل.
    وهذا الداء الخبيث ليس خاصاًَ باليهود، بل هو في كل قاضٍ لا يلتزم بأمر الله.
    والرشوة أنواع كثيرة، ويحتالون لها بحيل عظيمة غير صورتها المعروفة البديهية، كالهدية من أجل الحكم، أو إعطائها قبل القضية والمشكلة، وغير ذلك مما يفعله كثير من الناس، وهي أعم من كونها تكون للقاضي فقط، فهي تدخل لمن يملك أن يحكم أو يقرر، أو له ولاية على شيء.
    قال: ''((أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ))[المائدة:42] أي: الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنَّى يستجيب له، ثم قال لنبيه: ((فَإِنْ جَاءُوكَ))[المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك: ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً ))[المائدة:42] أي: فلا عليك ألا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يُوافق أهواءهم، قال: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ))[المائدة:43].''
    يقول: ''ثم قال تعالى مُنكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم''.
    أي: أنهم يعتقدون أن التوراة كتابهم، وأنهم مأمورون باتباعها، فيشير الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنهم كفروا بالقرآن الكريم، وبرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، معتقدين أن ما أنزل عليهم كافٍ، فهذه عقيدتهم ويرون ذلك لازماً لهم، ومع ذلك فإنهم عدلوا عنه إلى ما يعتقدون في نفس الأمر، وفي قرارة أنفسهم بطلانه وعدم لزومه، وهذا لا يفعله مؤمن.
    قال: ''فقال: ((وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ)) [المائدة:43] فلو كان مرادهم طلب حكم الله لاكتفوا بتحكيم كتابهم الذي يؤمنون به ويدينون به''
    ونأتي إلى شاهد آخر، وهو قوله تعالى: (( وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ))[المائدة:43] فأول ما افتتح الآيات بقوله: (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ))[المائدة:41] فذكر الكفر المعرف بالألف واللام، ثم قال بعد ذلك: ((مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ))[المائدة:41] فلا شك أنهم كفار؛ لأنه نفى الإيمان عن قلوبهم، وهذا غاية ما يكون من الكفر، فهذه صيغة أخرى، ثم ذكر بعض صفاتهم: ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ))[المائدة:42] وأنهم يتحايلون على حكم الله، ثم قال: ((وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ))[المائدة:43] فاتضح أنهم كفار.
    قال: ''ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا))[المائدة:44] أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدلونها ولا يحرفونها: ((والربانيون والأحبار))[المائدة:44] أي: وكذلك الربانيون وهم: العلماء والعباد، والأحبار وهم: العلماء''.
    وكأن الرباني له ميزة علم وعبادة كما قال تعالى: ((وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ))[آل عمران:79] فالرباني يجمع بين العلم وبين العبادة: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ))[آل عمران:146] وهم الذين جمعوا العلم والعمل، والأحبار هم العلماء، ويحكمون به وإن كان فيهم خلل أو نقص في العمل، ولو لم يعملوا لكنهم علماء كـابن صوريا وأمثاله علماء في التوراة ولو حكموا بما أنزل الله لكان ذلك موافقاً للحق وموافقاً لما طلب منهم، وإن كانوا في أنفسهم غير ملتزمين أو غير عابدين.
  5. تحريف التوراة والإنجيل

    قال: ''((بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه))[المائدة:44] أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به: ((وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)) [المائدة:44] أي: لا تخافوا منهم وخافوا مني: ((وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] فيه قولان سيأتي بيانهما''.
    وقوله: ((بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه))[المائدة:44] استنبط منها بعض العلماء: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَل حفظ التوراة والإنجيل إليهم، أما القرآن فإنه قد وَكَل حفظه إليه: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))[الحجر:9] فالقرآن محفوظ بحفظ الله، ولهذا لا يمكن أن يُبدل أو يُغير، أما التوراة والإنجيل وغيرهما فقد استحفظ عليها أهلها فضيعوها، ووقع فيها التحريف.
    ويشهد لهذا القصة التي رواها البيهقي وغيره: أن رجلاً كان زنديقاً لا يتدين بدين، فأراد أن يختبر أهل الملل، فذهب إلى بغداد حيث توجد الأديان والملل وكتب نسخاً من التوراة وألقاها إلى اليهود، قال: فما مضى زمن إلا ورأيتها بين يدي علمائهم يقرءون فيها حتى أصبح الواحد يقرؤها ويعطي أهله وأقاربه وقد غيَّر فيها وبدَّل كما يشاء، قال: ثم قلت: نغير القرآن! فكتب نسخاً من القرآن، فغيَّر فيها وبدل، قال: فلما ذهبت إلى الوراقين، فكلما نظروه ردوه، وقالوا: هذا فيه أخطاء، وهم لا يعلمون نيته الخبيثة فلا يبيعونه، قال: فلم يقبل مني أحد، فجاء وأعلن إسلامه، فلما سُئل عن سبب إسلامه ذكر القصة، وقال: علمت أن هذا الكتاب محفوظ، وأنه لا يمكن أن يُبدله أحد، ولو كان من عند غير الله لأمكن أن يبدل أو يغير كما يشاء الناس.
    وفي الوقت الحاضر أرادت إسرائيل أن تُغير في آخر طبعة من طبعات الإنجيل التي توزع في كل فندق وكنيسة وبيت، وفي كل مكان بأكثر من ألف نسخة، وقد طبع في إسرائيل الأناجيل الأربعة وغُيِّر فيها خمسمائة كلمة مما له علاقة باليهود، وأنهم تآمروا على المسيح، وأنهم أرادوا قتله إلى آخره، مما فيه تشنيع على اليهود فغيروه وطبعوه وانتشر، وجاءت المنظمات -التنصيرية التي تُسمي نفسها التبشيرية- وأخذت تجمع من هذه الكتب وتعيد الطبع وتوزع وتنشر في العالم دون أن يقرءوا أو يحققوا أو يدققوا.
  6. القول الثاني في سبب النزول

    يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: " سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ))[المائدة:44] و((فأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة:45] (( فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[المائدة:47] قال: قال ابن عباس: { أنزلها الله في الطائفتين من اليهود -أي: قبيلتين من اليهود- وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق}''.
    فحصل الشطط، فالنفرين من الضعيفة يعادل نفراً من القوية، سبحان الله!
    وهذا الذي أنكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنكرته الفطرة السليمة حتى فطرة اليهود في الجاهلية.
    ولو نظرنا إلى المعمول به الآن في العالم المعاصر، في ظل ما يُسمى بحقوق الإنسان لوجدنا العجب، فلو حصل حادث طائرة وتحطمت فإنهم ينظرون إلى وظائف الركاب، فإن كان دبلوماسياً فديته قد تصل إلى عشرة ملايين دولار أمريكي، وإن كان مهندساً -مثلاً- مائة ألف دولار، وإن كان فنياً خمسون ألف دولار، وإن كان عاملاً عشرة آلاف دولار وهكذا.
    فهذا ما يسمونه: العالم المتحضر، ويدعون فيه إلى المساواة في الإنسانية، فالذي كرَّم بني آدم حقاً وساوى بينهم هو كتاب الله ودين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالناس في ظله سواسية، وإن كان الكافر ديته غير دية المسلم، إلا أن الكفار كلهم ديتهم واحدة، والمسلمين كلهم ديتهم واحدة.
    قال: ''{ فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض} ''.
    أي: ما دمنا نحن متساوين في كل شيء، فلماذا الدية تختلف؟!
    والذي جعل القبيلة الذليلة ترفع رأسها، وتطلب المساواة، هو قدوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزول الدين الحق، وبعثة مُعلِّم الإنسانية الخير صلوات الله وسلامه عليه، الذي علَّمهم العدل حتى على نفسه، وعلى بني دينه وقومه، وأقرب الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، بل دعا الله إلى تثبيته، كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ))[النحل:90] فلأجل هذا قالوا: { إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم -أي: خوفاً منكم- فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم }.
    أي: فقد أنقذنا الله، وجاءنا محرر الإنسانية، فلا يوجد ذليل وعزيز ومقهور ومتكبر.
    قال: ''{ فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم، ثم ذكرت العزيزة }''.
    هذا في أول الأمر ما اتفقوا عليه، وقالوا: لو أنه أتانا بالوفاء بالعقود، فقالوا: نقول له هذا شيء اتفقنا عليه فلا بد أن يحكم لنا، ثم رجعوا إلى أنفسهم، فقالت: ''{ والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم}''.
    فلا يمكن أن يقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا التفاوت لأنه نبي الرحمة ونبي العدل، يقول: { ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا وقهراً لهم}.
    أما في هذا الزمن فقسَّم اليهود أنفسهم إلى نصفين: صهاينة وغير صهاينة، ثم قُسِّم الصهاينة إلى نصفين: حمائم وصقور، وهل اليهود فيهم حمائم؟!
    لم نسمع ذلك في القرآن الكريم ولا في السنة ولا في التاريخ، وهناك أناس متطرفون وأناس معتدلون، فهذا لا يمكن ولو قدم بعض التنازلات، فهو لا يقولها لأنه حمامة أبداً، وإنما يقولها لأن هذا الثعلب يرى أن هذا أوثق لمصلحة إسرائيل، والآخرين الذين نسميهم الصقور هم نوع آخر من الثعالب يقولون: ليست مصلحة إسرائيل في هذا... وهكذا، فلا يمكن أن ندع ما في كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتاريخنا كله، ونأخذ بما تقوله أبواقهم المأجورة في بعض الصحف التي تصدر بعد التطبيع.
    فهنا يقولون: كيف الحيلة؟
    قالوا: { فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه قبل أن تحكموه، فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -فقالوا لهم: أنتم تجالسون محمداً فاخبروا لنا رأيه- فلما جاءَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرهم كله، وما أرادوا -فأطلعه على ما عندهم- فأنزل الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ))[المائدة:41] الآية إلى قوله تعالى: ((الْفَاسِقُونَ))[المائدة:47] قال: ففيهم والله أنزل، وإياهم عن الله عز وجل }.
    وهناك رواية أخرى، قال: { إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك: أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تُؤدى الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يُؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، فجعل الدية في ذلك سواء } وذكر أيضاً رواية ابن جرير وغيره.
    فتكون الآيات هذه دالة على أن الحكم في: ((إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا))[المائدة:41] ليس الرجم، وإنما هو الدية، ويمكن أن يكون السياق دالاً عليه.
    ثم ذكر روايةً عن ابن عباس، وأنه روي أيضاً عن ابن عباس نفسه رضي الله عنهما أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، قال: ''كما تقدمت الأحاديث في ذلك''.